مقالات

الجيلاني يوضح دور الحارة في منتدى الخيصة

كتبه/ أحمد مسجدي
تذكار قبل الاختيار :
احترت في اختيار موضوع الكتابة عن الشخصية الاجتماعية والثقافية السيد حسين عبد الله الجيلاني (رحمه الله) لتعدد ثقافاته المجتمعية، وتنوعها وغزارة معرفته بعادات وتقاليد أكثر المناطق الحضرمية، وآثارها وتراثها الشعبي، إلى أن خلصت إلى الحارة الحضرمية لتكون محور الحديث..
حقيقة، هو رجل بسيط رغم عمق ثقافته الواسعة، ومتواضع رغم حجم معارفه الشاسعة، ولبق رغم غزارة علمه في البحث والتاريخ، بوصفه دينامو المثقفين في المنتدى، ومرجع الباحثين، ومبتدأ المبتدئين، ومرشد السالكين نحو الانطلاق الثقافي.. فلا يُخفي على الطالب معلومة، ولا يعدم للقاصد منظومة، يوزع لهذا وذاك ما يحتاجونه من معارف تعينهم وتساعدهم في مبتغاهم.
والسيد حسين الجيلاني (رحمه الله) باحث في التراث الشعبي، وحبر بارع فيه، وكاتب متبحر في سوالف المجتمع الحضرمي، فكان اجتماعياً، محبوباً إلى الجميع، مجبولاً على حب من حوله لإرضائهم كاجتهاد لادراك ما لم يدرك من غاية الرضى، معتداً بشرف الأصل وطيب المنبت، وكرامة المحتد، متحلياً بمكارم الأخلاق، ومتصفاً بمعالي الأمور، اقتداء آبائه وأجداده، وتأسياً بأشراف قومه.
السيد حسين الجيلاني (رحمه الله) كان ثقافياً مجتمعياً وأكثر حرصاً على مجتمعه من اختلاط الثقافات، محاولاً نخل ما اندس منها في الثقافة الحضرمية، وتصفيتها كتصفية الحبوب من الغشر بحسن نية لا تشوبها شائبة وإن هفت، وحسن صنيعة لا تعتريها المجاملة وإن تهذبت، ولهذا تميّز بالتمكين العملي في أبحاثه، والتحقيق البارع في كتاباته، والتركيز العقلي في محاضراته، مع التحلي بجاذبية الأسلوب في ما بحث وكتب وحاضر، وعدم الانصياع إلى ما يستوجب الخلاف في ما جمع من عادات وتقاليد وموروث مجتمعه مهما بلغ الاختلاف ذروته وحدته في النقاش، لإيمانه بصحيحه من زيفه، ومعرفته بزينه من عيفه، وبسمينه من نحيفه.
الجيلاني ومنتدى الخيصة :
للسيد حسين الجيلاني (رحمه الله) دور فعال في تأسيس منتدى الخيصة الثقافي الإجتماعي عام ١٩٩٠م لخدمة قضايا التراث والأدب والفلكلور الشعبي والأعمال البحثية، فقد عمل بمعية كوكبة من المثقفين والباحثين لخدمة الثقافة ونشرها، وتوثيق التراث من خلال الفعاليات والنشاطات الكثيفة لتحقيق أهداف المنتدى الذي أسس من شأنه عن طريق تشجيع ومساعدة الباحثين، وتسهيل أمورهم للتمكن من إلقاء محاضراتهم المخطط لها مسبقاً، واستخلاص مضامين الرؤى والمقترحات والتوصيات بعد المناقشات وتوصيلها إلى جهات الاختصاص لاستظهارها متى ما استوجب ذلك.
ومما أكد عليه المنتدى ـ برئاسته ـ من أهداف تدعيم أواصر الأخوّة بين المثقفين والمنتدى، بوصفه تجمعاً ثقافياً اجتماعياً طوعياً مستقلاً، ويتمتع بالشخصية الاعتبارية، وتمثيل نشاطه من خلال ما ينظمه من ندوات ونشاطات وإصدارات، وتوثيق ما يمكن توثيقه من تراث (سمعياً ومرئياً ومطبوعاً). كما يسعى إلى الإسهام الفاعل في الحياة الثقافية والإجتماعية، وكل ما ذكر من أهداف المنتدى حافظ السيد الجيلاني (رحمه الله) وبمعية زملائه في السكرتارية على تنفيده وترجمته عملياً من خلال المتابعات الحثيثة .
الجيلاني ونشرة الخيصة :
لم يكتفِ نشاط المنتدى على الندوات والمحاضرات والتوثيق السمعي والمرئي فحسب، بل سعى بحماس رئيسه السيد حسين الجيلاني (رحمه الله) وبقية زملائه في سكرتارية المنتدى إلى إصدار نشرة الخيصة الشهرية تيمناً باسم المكلا القديم، حيث تكونت لها هيئة تحرير من أربعة أعضاء وترأس هو تحريرها منذ التأسيس في يناير عام ١٩٩٦م، وحافظ على انتظام إصدارها وتنوع مادتها (بحثية ـ ثقافية ـ أدبية ـ فنية ـ رياضية) ليتبعه الإصدار الثاني في ٦ مارس عام ١٩٩٦م، وتتابع إصدارها فصلياً مؤقتاً كمشروع ثقافي شهري مخطط له للمستقبل.
ومما يحبذ ذكره أن خِطط المنتدى ونشاطه الأسبوعي وخاصة الجلسات والندوات التي تعقد عصر كل يوم جمعة تنشر في هذه النشرة لفصل كامل مجدولاً بتاريخ الفعالية وعنوانها ومنفذها ليتسنى للباحثين الرجوع إليها في مكتبة المنتدى متى ما دعت الحاجة إلى ذلك.
وقد كانت النشرة تصدر بعدد ثمان صفحات ثم ازدادت لتستوعب الكثير إلى عشرين صفحة كي يتمكن الباحثون والكتّاب من فرصة نشر مقالاتهم.. وللسيد حسين الجيلاني (رحمه الله) الدور البارز في استقطاب الكتًاب والباحثين والبحث عنهم ودعوتهم للمساهمة في النشر .
الجيلاني ودورالحارة في الحياة الاجتماعية :
معروف أن السيد حسين الجيلاني (رحمه الله) باحث في التراث الشعبي بكلّه وجلّه، ولا تفوته شاردة ولا واردة إلا واطّلع عليها، ويستعذبك حديثه حين يحاضر في المنتدى أو مقدماً أو متداخلاً أو مناقشاً لموضوع ما، فلابد أن يضيف بعض المعلومات التي لم تذكر في الموضوع ليشعر الحاضرون أمامه بمعرفته الشاملة. ومع اتساع معرفته وثقافته إلا أنه يمهد الطريق لغيره ويتعهدهم للوصول إلى مبتغاهم الشفوي أو الكتابي على حساب معارفه التي يحاكيها للملأ ولمن طلب، وتقديم الغير على نفسه كإيثار وتضحية لما يملك من معلومات، ولكنه بطريقة ما يستطيع بث أفكاره ومعارفه لمن حوله. ولعل أبرز محاضراته في المنتدى بحثه القيم عن دور الحارات الحضرمية في الحياة الاجتماعية وهي التي جعلناها محوراً أساسياً لحديثنا عنه لارتباطه الوثيق بها.
قد لا يطلع الكثير من الباحثين في التراث الشعبي على تفاصيل نظام الحارات الحضرمية وما يدور فيها من أنشطة اجتماعية وثقافية وفنية وفلكلورية شعبية منذ نشأتها وإلى وقتنا الحاضر، وأن البعض منهم اتخذ جزءاً من ذلك النشاط وأكثر من ذلك البحث في الفلكلور الغنائي الشعبي، وبالتحديد الفنون المصاحبة للرقص دون الخوض في جميع التفاصيل الأخرى. بيد أن السيد حسين الجيلاني (رحمه الله) غاص في العمق التراثي الخاص بالحارات الحضرمية مبيناً نشأة هذه الحارات، مستدلاً بمن سبقه في البحث، مزوداً حديثه بالتواريخ المدعمة له، وموضحاً آراء الباحثين والمؤرخين في نشأة الحارات الحضرمية رغم اختلاف بداية النشأة من مؤرخ إلى آخر، ومع ذلك لم يبدئ قلقه من ذلك الاختلاف بل راح يطرح رؤيته الخاصة به بقناعته التي لا يرنو بها شهرة، ولا يطلب ذيوع صيت، لأنه يوهب معارفه لغيره وبحسن نية.
وبما أن نظام الحارات في حضرموت هو نظام اجتماعي ينظم علاقة الفرد بالأسرة المحيطة به داخل حدود معلومة في إطار المدينة الواحدة، فللدور الاجتماعي فيها بالغ الأهمية من إصلاح ذات البين والمعايدة والمؤازرة وانتشال الغريق وإطفاء الحريق وتجهيز الأموات وطبخ الطعام في الولائم والمآتم بدون مقابل مادي. فهذا الدور الاجتماعي وما عداه لم يفت الباحث الجيلاني (رحمه الله) في محاضرته بل تعداه إلى إثارة العصبية والصراعات المتكررة بين الحارات بعد هدوء دام ستة قرون لما قبل القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين اللذين شهدت فيهما الحارات تلك الصراعات الفتوية التي ينتهي بها الأمر إلى تقديم بلاغات ودعاوى إلى السلطة التي قد تجد أحياناً صعوبة في الفصل في الأمر، مما يؤجج ويزيد في نشوب الاشتباكات من جديد، وربما ينتج عن ذلك السجن والتغريم للبعض.
وفي الدور الثقافي للحارة لم يجد الباحث الجيلاني (رحمه الله) بداً من الحديث فيه لأن الجانب الثقافي هو الطاغي على أبحاث الباحثين المستجدين وبالذات في الفنون الشعبية المتنوعة في الأداء والكيفية وما تصاحبه من آلات، وربما في اختلاف التسمية من منطقة إلى أخرى، كرقصتي العدة والشبواني مثلاً. بيد أن للشعر حضور بارز في مثل هذه الرقصات، وفيه تذكر الأحداث المؤثرة باختلاف أنواعها سواء كانت فرائحية أو مأساوية عبر التاريخ، ويشار إلى المآثر والمعالم للاستشهاد بها على أصول الشاعر المتحدث، كما يستشهد بالأماكن والمواقع لتصبح هذه الأشعار وثيقة تاريخية تدوينية لسالف الأزمان.
وعندما خصص الجيلاني الحديث عن المكلا تجده يسرد بكل شفافية تاريخها، ودور مينائها واتساع رقعتها إلى ما وصلت إليه في هذا الزمان، وتفصيل حاراتها القديمة والحديثة ودورها في الحياة الاجتماعية والثقافية، ذاكراً ألوان الغناء والرقصات الشعبية، كما لم يغفل دور الحارة في حضرموت بصورة عامة في الحفاظ على الموروث الشعبي من شعر شعبي وحكايات شعبية وفلكلور وعادات وتقاليد من خلال مراسيم الزواجات والأعياد والمناسبات الدينية وغير ذلك.
هذا قليل من كثير عن علاقة السيد حسين عبد الله الجيلاني (رحمه الله) بالتراث والموروث الشعبي وخاصة الحارات ودورها في الحياة الاجتماعية والثقافية منذ نشأتها.. فحقيقة القول: أن عمر الإنسان المبدع وحياته العظيمة ينبغي أن تقاس بأعماله وليس بالسنين..
رحم الله السيد حسين عبد الله الجيلاني وغفر له.
القاهرة 2021/6/21

Previous ArticleNext Article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *